top of page
بحث

عقولنا نسلمها لمن؟

صورة الكاتب: مشهور محمد الصهيبيمشهور محمد الصهيبي

تاريخ التحديث: ٤ أكتوبر ٢٠١٨



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد.


أرجو متابعة المثال التالي لنرى حجم العبث الذي يحدث في المفاهيم عند الناس، وكيف أن الثوابت بين عشية وضحاها تتبدل، لمقالة قُرأت على النت، أو لمقطع شُوهد على اليوتيوب، قدمه شخص ما، لا ندري من هو، ولا نعلم قدره في العلم!


فإليك هذا المثال...


تخرج طالب من الثانوية بمعدل عالٍ في مادة الفيزياء. ومعلومٌ أن هذا التفوق لا يجعله متخصصًا في الفيزياء، ولا قريبًا من ذلك، وإنما يكون قد حصّل أوَّليات وأساسيات علم الفيزياء وحسب.

بعد ذلك -فجأة- رأينا هذا الطالب يعتلي منابر وسائل التواصل الاجتماعي، ويتكلم في علم الفيزياء، وبأسلوب خطابي وثقة تجعل من يسمعه يظن أنه قد أفنى حياته في هذا والعلم، وبدأ يأتي بكلام جديد لم يسمع به المتخصصون من قبل؛ وصار أعداد المتابعين له يزداد، فشرع يتطاول على علماء الفيزياء بالثلب والنقص، وتكلم في أعظم عبقري في علم الفيزياء عرفه التاريخ، وهو إنشتاين، وانتقص قدره، وقلل من شأنه وازدرى علمه، وانتقد نظرياته. فازداد إعجاب الناس به، وقالوا: حتمًا، ما تكلم هذا الطالب بهذه القوة، والجُرأة إلا وعنده ما عنده من العلم. وبدأ الأتباع يشككون في إنشتاين وعبقريته، وتجرأوا بالرد على كل من يدافع عن إنشتاين، سواء كان من علماء الفيزياء المتخصصين البارعين في تخصصهم أم غيرهم. وصار هذا الطالب يظهر في القنوات الفضائية، وهي تتخاطفه وتتنافس لاستضافته.


وبدأت تهتز مكانة إنشتاين وعلماء الفيزياء عند الناس، واستمر الطعن في عبقريته وعلمه.

ومعلوم أن طعن هذا الطالب في إنشتاين، ليس طعنًا فيه وحسب، وإنما هو طعن وانتقاص لجميع علماء الفيزياء الذين عاصروه، وأتوا بعده، وأثنوا على علمه وعبقريته. لأنه كيف يتفق جميع هؤلاء العلماء المختصين، النابغين في الفيزياء على عبقرية إنشتاين على مر هذه العقود، ثم يأتي هذا الطالب ليقول لنا إنه ليس كذلك؟


فإذا صدقنا هذا الطالب، يلزم من ذلك أن جميع هؤلاء الفيزيائيين كانوا على خطأ، وأن شهادتهم في إنشتاين، كانت شهادة زور!


فما رأيكم فيما فعله هذا الطالب؟ وما رأيكم في موقف متابعيه؟ وما رأيكم فيما قامت به القنوات الفضائية؟


وماذا لو أن هذا الطالب لم يكن متفوقا أصلا، بل كان قليل البضاعة في علم الفيزياء، وغير متخصص فيه، فما سيكون موقفنا منه حينئذ؟


للأسف، هذا المثال يجسد تمامًا ما يحدث في واقعنا هذه الأيام على القنوات الفضائية، وفي وسائل التواصل الاجتماعي مع العلم وأهله!


يأتي رجل ويتكلم في البخاري، إمام المحدثين، وشامة علم الحديث، فيطعن فيه بكل صفاقة، ودون أدنى حياء.


وجميعنا يدرك ويعلم قدر البخاري ومكانته، الذي زكاه المتخصصون العارفون بعلم الحديث وعلله، الخبيرون بعلم الرجال وأحوالهم، على مدى 1200 سنة. ويظن المسكين أنه بطعنه هذا قد طعن في البخاري وحسب، وحقيقة الأمر أنه طعن في جميع علماء الحديث والشرع على مدى 1200 سنة، الذين زكوا البخاري وعرفوا له قدره وإمامته وشهدوا له بذلك.


ومعلوم أن علم الحديث والعلل والرجال، علم رصين، قام على أصول وقواعد كسائر العلوم، سواء كانت تخصصات علمية كالطب، والهندسة، والأحياء، والكيمياء، والفلك، وغيرها؛ أو أدبية كاللغة، الاقتصاد، والاجتماع، وغيرها. والإمام البخاري برز في هذا التخصص، وشهد جميع أهل هذا التخصص بعبقريته، وإمامته، وتميزه بالحفظ، والضبط والإتقان. فمن قدح في البخاري فقد قدح في علماء الحديث جميعا. ونحن هنا لا نقول بعصمة البخاري، ولا ندعي ذلك، لكن أن تُهضم مكانة البخاري العلمية، وينتقص من قدره، فهذا ما لا يرتضيه عاقل عرف العلم أو شم رائحته.


فهل يستقيم بعد ذلك، أن نسمح لمن كان على شاكلة طالب الفيزياء هذا، أن يتلاعبوا بعقولنا، ويصرفونا عن الثوابت والمسلمات، ويعبثوا بدين الله، كأمثال: شحرور، وإسلام بحيري، وميزو، وعدنان إبراهيم وغيرهم، الذين حتى لو كانوا طلبة علم حقا لوجب علينا مخالفتهم، فما بالكم وهم لم يعرفوا بالعلم، ولا طلبه، ولم تشهد لهم بذلك المجامع والمؤسسات والهيئات العلمية، بل العكس من ذلك، فقد حذرت منهم ونفّرت عنهم.


وإليك مثال آخر حتى ترسخ الفكرة...


عندما يقوم عالم مرموق، متبحر في علم الاقتصاد بإخراج بحثًا علميًا مُحكَّمًا من قبل عدة مؤسسات علمية لها وزنها في المجال البحثي، فهنا يُسلِّم له الناس ما قد يَصدُر منه من توجيهات، وإرشادات تخدم المجتمع في مجال الاقتصاد. فالعاقل يصنع الشيء نفسه مع كل تخصص ومجال، سواء كان في علم اللغة، أو الفقه، أو التفسير، أو الحديث، أو غيرها من العلوم.


وختامًا، أقول لك أيها المسلم الكريم الفطن...


أسأل الله أن يحفظك من كل سوء، حين تذهب لطبيب متخصص للعلاج، ويقوم بتشخيص مرضك، ويقدم لك العلاج الذي يراه أنسب لحالك، فهنا قد تقول: دعني أعرض تشخيصه على أكثر من طبيب للتأكد من دقته؛ بل قد تأخذ تشخيصه وتعرضه على أطباء في دولة أخرى؛ فإذا وجدت جميع هؤلاء قد وافقوا هذا الطبيب وأقروه، فهنا تجدك أمام إجماع واتفاق أهل التخصص، فتُسلم طواعية بدنك لهذا الطبيب ليقرر لك ما يرى دون أدنى تردد.


وهذا هو الحال والواقع الذي عليه الناس في كل تخصص؛ وهو الذي يقتضيه العقل.


فإذا كنا نتحرى ونبالغ في التثبت عند أهل التخصص لنحفظ أبداننا، فما بالنا لا نصنع الشيء نفسه مع ما يُعرضُ على عقولنا؟!


وما بالنا نفرط في حفظها ورعايتها، ونتساهل كثيرا ونسلمها لكل من هب ودب؟!


فضرر العقل أشد فتكًا بصاحبه من ضرر البدن؛ ذلك لأن استقامة العقل وفساده ينبني عليه جنة ونار.


فهل سندرك لمن نحن نسلم عقولنا؟!



٣٠٦ مشاهدات

أحدث منشورات

عرض الكل

هل يزهد عاقل بمثل هذا العرض؟

قيل: القناعة كنز لا يفنى؛ وهي حكمة تحمل معاني جليلة؛ ولكننا نعجب عندما نرى كثيرا من الناس يوظفها بخلاف مقصودها؛ فيَزهد فيما لا يُزهدُ فيه،

Comments


Commenting has been turned off.

© 2018 مشهور محمد الصهيبي. 

bottom of page