قيل: القناعة كنز لا يفنى؛ وهي حكمة تحمل معاني جليلة؛ ولكننا نعجب عندما نرى كثيرا من الناس يوظفها بخلاف مقصودها؛ فيَزهد فيما لا يُزهدُ فيه، ويعرض عما العقل والفطرة تدعوان إليه.
مثلا: عُرض على رجل وظيفة في تخصصه براتب مغرٍ، معها قائمة من المميزات، يطمع كثير من الناس أن ينالها، ويسيل لها اللعاب، وهو يعمل لسنوات في وظيفة زهيدة في غير تخصصه؛ فما سيكون موقفنا إذا سمعنا صاحب هذا العرض يردد هذه الحكمة ويعطي هذا العرض ظهره معرضا عنه، زاهدا فيه؟!
فإذا سألناه عن سبب قراره هذا، أجاب: أنا أرضى بالقدر الذي أستطيع من خلاله أن أحفظ نفسي عن سؤال الناس، ولا داعي لأن أتوسع في طلب الرزق، لطالما أنني في آخر النهار أجد ما يكفيني وأهلي!
وقد يزداد اندهاشنا، وتحار عقولنا، حين نرى هذا المحروم، يمارس الزهد نفسه مع ما هو أجل وأعظم؛ كأن يُعرض عليه أعلى مراتب الجنة، فيزهد في ذلك ويقول يكفيني دخول الجنة!
فتجده يزهد في القيام بكثير من نوافل الطاعات والقرب، ويكتفي بالقدر الذي يبقيه على حافة الإسلام. بل قد يرتكب قدرا من المعاصي والكبائر، ويبرر لذلك بأن الحسنات يذهبن السيئات، وأن الله غفور رحيم.
وعادة يستدل هؤلاء بإنتقائية مجحفة الأحاديث التي يظنون أنها تعزز منهجهم المبتكر، فيؤمنون ببعض الكتاب ويتغافلون عن بعضه الآخر. من ذلك حديث الأعرابي الذي أتى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة. قال صلى الله عليه وسلم: "تعبد الله لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان" قال: والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا. فلما ولَّى قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا الرجل") متفق عليه
فالنبي صلى الله عليه وسلم دل الأعرابي على بعض الأعمال التي تدخل الجنة وليس كلها حتى لا يُثقل عليه لا سيما إن كان حديثَ عهد بإسلام. ولا يَفهم مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بذلك حصر الأعمال التي من أتى بها كان مسلما، وأن ما سواها لا يضر تركها! وإلا فأين حج البيت وأركان الإيمان واجتناب المحرمات كالربا والزنا والخمر والسرقة وغيرها.
أو حديث (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نَفْقَهُ ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات في اليوم والليلة"، فقال: هل عليَّ غيرُهُنَّ؟ قال: "لا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ، وصيام شهر رمضان"، فقال: هل علي غيره؟ قال: "لا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ"، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة فقال: هل علي غيرُها؟ قال: "لا، إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ"، فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أَزيدُ على هذا ولا أَنْقُصُ منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفلح إن صدق").رواه البخاري
ولنلاحظ أن مثل هذه الأحاديث لم يرد فيها ذكر أركان الإيمان الستة، ولا الكبائر؛ فلا يستقيم أن نأخذ بهذا الحديث ونعرض عن غيره من الأحاديث والآيات؛ فالنصوص لا يُعرض عن كلها ببعضها، وإنما يكتمل ويستقيم قوام الأحكام بجمع بعضها إلى بعض.
ففي كلا الحدثين الأمر يدور حول الأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم رأى حالهما فذكر لهما أدنى مراتب الأعمال، فمثل هذه الأحاديث تتكلم عن أدنى مراتب الإسلام والإيمان، وهي أن تأتي بالواجبات وتترك المحرمات، فيكون صاحبها كالمقتصد الذي سماه الله عز وجل في كتابه. بينما الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئًا فهو الظالم لنفسه. فالجنة مراتب والعبد يترقى فيها بحسب عمله وطاعته، قلة وكثرة.
قال تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فاطر 32
لكننا في الواقع نرى من يستدلون بهذه الأحاديث، غير ملتزمين بظاهرها، فإذا نظرنا للواجبات وحالهم معها، فنجد قيامهم بها على غير الصورة التي أمر الله عز وجل بها.
وإذا نظرنا إلى حالهم مع المحرمات وتقحم أسوارها، لا نجدهم إلا على حال تخالف ما نهى الله عنه وزجر. فحالهم ليس كحال المقتصدين أو السابقين بالخيرات.
فإذا جئنا إلى الصلاة، رأينا تهاونا في أدائها مع الجماعة. تقام الصلاة وكأن الأمر لا يعني لهم شيئا، فلا تعظيم لهذا النداء أو المبادرة إليه والقيام به؛ ونرى قصورا بينا في الوفاء بذلك.
فهل هذا التساهل في إمتثال أمر الله والتثاقل في الأقبال عليه منتظم مع قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي "أفلح إن صدق"؟ وهل هو مطابق لهدي النبي صلى الله وعليه وسلم في حرصة على الصلاة والتشديد عليها، وصرامته مع المتساهلين فيها؟
وحقيقةً، لو علم كل واحد منا يقينا بقدر من أقيمت له الصلاة، وبين يدَي من سيقف، وما للصلاة من قدر عند الله عز وجل، لتغير لون وجهه مهابة له سبحانه وتعالى، ومخافة أن يقف موقفا يكون قد أساء الأدب فيه مع مولاه عز وجل.
وأما إذا جئنا إلى واقعهم مع ما حرم الله تعالى، فللأسف، نجده كلأ مباحا، وعِرضا متاحا، يسرح فيه مع كل سارحة، وينهش فيه بكل جارحة.
فترى مجاهرة بالمعاصي، وتفكه بذكرها أمام الداني والقاصي. وكأن الأمر لن يضر دينه، أو يسود صحيفته أو يُشينه.
بل منهم من يرى أن التزود من نوافل الطاعات، تشددا لا حاجة له، وأن الوسطية هي ما هو عليه، فترى تعطيلا لكثير من سنن النبي صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية، بحجة أنه غلو وتنطع، أو أنها نافلة لا يضر تركها. وترى تقحما للمعاصي بحجة أن الأمر سهل والرب غفور؛ فلا مانع من مشاهدة الأفلام، ومشاهدة وسماع الأغاني التي قال عنها بعض الغربيين أنها أصبحت كالأفلام الإباحية، والاختلاط بالنساء.
ولنقف وقفة يسيرة مع الأفلام، فإذا اطلعنا إلى ما وصل إليه حال الأفلام اليوم، فوالله إن قدر الدعر والخنى الذي يبث فيها ليعجب المرء من قدر التبلد عند الناس في التعاطي معها، فهي لا تخلو من مشاهد خليعة، أقلها نساء كاسيات عاريات؛ فالممثلة تنتقى بعناية فائقة، ومعايير جمال دقيقة، فهي في جمالها فتنة للنساء قبل الرجال. والممثل مثل ذلك، فتنة لمن تشاهده من النساء. فتجد الزوجة المسكينة مهما تزينت وتجملت لزوجها فإنها لن تستطيع أن تحاكي تلك الممثلة الفاتنة، ولن تملئ عين زوجها كما فعلت تلك الممثلة.
وأما عبارات السب واللعن في هذه الأفلام فهي كالفواصل بين الجُمل! بل الأمر تجاوز ذلك إلى سب المولى عز وجل والطعن في ذاته، والسخرية من جنابه سبحانه وتعالى! والناس تشاهد وتسمع دون أن يقشعر بدنها أو تتمعر وجوهها. وإذا قلت: يا مسلمون! الفيلم فيه سب لله عزوجل، قالوا: هذا تمثيل، فلا تدقق!
وهكذا تطمس مهابة الله عز وجل من قلوب العباد!
وصارت الأفلام أداة لنشر القيم الغربية المنحلة، كالعلاقة بين الجنسين، والتسويغ للشذوذ والتحول الجنسي وغيرها. وكل ما ذكر لا يخلو منه فيلم. ومن قارن بين حال الأمة قبل عقود يسيرة، وما آلت إليه اليوم، علم عِظَم أثر هذا الوسائل على المجتمع. لأجل ذلك رأينا من بنات المسلمين من تبكي إذا رأت المغني الذي تحب، بل ويُغمى عليها!
وصاحبنا الزاهد في الجنة، الطامع في ملذات الدنيا، لا يتورع ولا يزهد في مشاهدة هذه الزبالات، ومبارزة الله والجهر بذلك، بل وجلب أهله وأولاده معه، ودعوة غيره لمشاهدتها والتصريح بذلك دون خوف من الله تعالى أو وجل. ويغفل عن قوله عليه والصلاة والسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) رواه البخاري ومسلم
فالعاقل حقا، من وفق لمعرفة ما يكون الزهد فيه متعين، فيتركه. وما يكون الجد والاجتهاد فيه متحتم، فيعمل به.
قال تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر 9
وقال المولى عز وجل: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) الجاثية 21
فيا عبد الله، اشترِ الباقي بالزائل تكن غانما، واحذر العكس فتكن غارما.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
Comments