top of page
بحث
صورة الكاتبمشهور محمد الصهيبي

تنبيه العاقل الحكيم لاتخاذ القرار السليم

تاريخ التحديث: ١٦ يوليو ٢٠٢٢


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد.

نسعد حين نرى العاقل يوظف عقله ليتخذ القرار الصحيح النافع، ونعجب حين نرى العقل نفسه، كيف يمكن أن يُعمّي على صاحبه في التمييز بين مصلحة وأخرى.


فإذا أمعنا النظر في العوامل المؤثرة والحاملة على اتخاذ القرار، فإننا نجد أكثرها تعود إلى العوامل التي دائما تؤول إلى مكاسب مادية، تُحصَّل في الدنيا، كالوظيفة والمال والزوجة.


بينما نجد العقل يؤخر، ويهمل الدوافع والعوامل التي مبناها على مقدمات غيبية كالإيمان بالله واليوم الآخر، التي تؤول إلى مكاسب غيبية ومؤجلة، كدخول جنة عرضها السماوات والأرض.


فما كانت ثمرته حالّة، يلمسها المرء ويراها أمام عينيه في هذه الدنيا -وإن كان احتمال تحققها ضعيف- فإنها تدفعه لبدل مزيدا من الجد والاجتهاد في سبيل تحصيلها.


بينما المحرك والدافع الغيبي وهو ما كانت ثمرته وثوابه غيبيًا مؤجلًا –مع يقيننا بتحققه-، فإننا نرى تهوانا في اعتباره، وتقاعسًا في السعي لتحصيله. لأجل ذلك لا يقدمه على غيره إلا من كان ذا قلب أُشرِب إيمانا بالغيب، فكان قائدا له في التمييز بين خير الخيرين، وتقديم من المصالح أعلاها في الدارين.

دعونا نأخذ هذا المثال الواقعي لنزيد الأمر وضوحًا.


عندما ننظر إلى سَير حياة كل واحد منا، منذ أن يبدأ الدراسة إلى أن يتخرج من الجامعة، فإننا نجد في جميع هذه المراحل، حرص الأبوين على أن يستيقظ أولادهما للدراسة مبكرين، بل بعضهم قد يسعى ليوقظ أولاده قبل الفجر بكثير، حرصا منهم على أن لا تفوتهم الدراسة. وهؤلاء الأولاد -المغلوبون على أمرهم- يُفعلُ معهم هذا الأمر لسنين، منذ أن يبدأوا الدراسة التمهيدية إلى أن يتموا الدراسة الثانوية.


وعندما نسأل الأبوين: ما الذي يحملكم على هذا العناء، والصبر عليه كل هذه السنين؟


نجد جواب كل أب وأم باتفاق: حِرصُنا أن يتخرج ولدنا بمرتبة مُشرِّفة، حتى يلتحق بالكلية التي نتمناها له.

فإذا سألناهما هل-بعد كل هذا العناء- تستطيعان أن تجزما أن هذا الطفل سيحقق هذا الأمل؟

أجابا باتفاق: حتما لا نستطيع أن نضمن ذلك.

ويستمر الجد والعناء، ويواصل هذا الولد المسكين المشوار، فيلتحق بالجامعة، ويكد ويجتهد، ويُوصِل الليلَ بالنهار، ويحرم نفسه الراحة.


فإذا سألناه: ما الذي يحملك على كل ذلك، أيها الشاب أو أيتها الشابة؟

أجاب: أريد أن أظفر بترتيب عالٍ بين زملائي، حتى أكون مؤهلا للحصول على الوظيفة المرموقة ذات الأجرة العالية.

فإذا سألناه: هل بعد كل ذلك العناء والكد تستطيع أن تضمن حصولك على هذه الوظيفة المنشودة؟

قال: بالتأكيد لا.

بل قد يركض سائر عمره خلف هذه والوظيفة المنشودة، ثم لا يجدها.

وفي المقابل عند الثواب والأجر الغيبي الحتم، وهو الجنة – الذي نجزم أن المسلم سيحصله في الآخرة–، لا تجدنا نَبذل عُشر ما نفعل عند السعي لتحصيل ما كان ثوابه دنيويًا. فهذا الأب والأم الذَيْن أرهقا هذا الطفل المسكين لسنين طويلة لأجل أمر غير مضمون العاقبة، ما بالهما عند وعد الله الحق بجنة عرضها السماوات والأرض لا يسعيان ولا يبذلان عُشر ما يفعلانه لتحصيل الأجر الدنيوي.

فإذا كان يوم إجازة، تجد الأبوين - إلا من رحم ربي - لا يباليان هل أستيقظ الأولاد لصلاة الفجر أم لا. بل قد يعتذرا للأطفال قائليْنِ: دعهم ينامون فاليوم يوم راحة!

فالعقل قد أُعطي من البراهين العقلية والنقلية التي تدل على أن الله حق سبحانه وتعالى، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن الحساب حق، فكيف يفرط عاقل في مُوعود الله الصادق الحتم، ويُقدّم عليه ما هو غير مضمون العاقبة، بل هو وهم!

فما لكم كيف تحكمون؟

فلو أننا نظرنا من أعلى لنحلل هذه الصورة، وندرس خارطة حياة هذا الطفل منذ أن بدأ يدرس إلى أن صار موظفًا.

فكم من الوقت والساعات الطوال التي بدلها في سبيل تحصيل المكسب الدنيوي؟!

وكم استطاع أن يحقق؟!

وفي المقابل، إذا نظرنا في مشوار حياة هذا الطفل نفسه، وسألنا: كم من الوقت والساعات بذلها في سبيل تحصيل الثواب الأخروي؟


الذي قال عنه المولى جل وعلى ( يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ(68 ) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ۖ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ۖ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِّنْهَا تَأْكُلُونَ)[1]


سنجد أن الفرق شاسع، البون واسع، بين سعيه وجدِّه لثواب الدنيا، وتفريطه وإهماله لثواب الآخرة، وشتان بين الثرى والثرية.

ولا أقول هذا تزهيدا في طلب العلم الدنيوي، ولا تقليلا من شأنه، وإنما أردت بذلك أن أنبه أن العاقل لا بد وأن يضع كل مصلحة في مكانها الصحيح. فلا شك أن المصلحة العظمى، التي هي تحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل، وثمرتها ثواب لا يدانيه ثواب، ينبغي أن تكون أولوية في حياتنا، ومقدمة على أي مكسب دنيوي مهما عظم شأنه، وغلى ثمنه؛ ذلك لأن حياتنا ومماتنا إنما هي لأجل هذه الغاية، فالعاقل الحكيم ينبغي عليه أن لا يُغيِّب هذه الحقيقة في سَيرِه في هذه الدنيا، حتى يلقى الله عز وجل وهو سالم غانم.


قال تعالى: (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)[2]


ولعل هذه العبارات تلخص ما قلت:


تحقيق هدف دنيوي أمر محتمل.

وبلوغ الجنة حقٌ وحتمٌ بعد أجل.

فأحسِن ترتيب الأولويات، وقدم ما هو حتمٌ على ما هو محتمل.

لا سيما، وأن الفرق بين الأمرين جلل.


 

[1] سورة الزخرف: الآية 68-73


[2] سورة المؤمنون: الآية 115

١٣٥ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل

هل يزهد عاقل بمثل هذا العرض؟

قيل: القناعة كنز لا يفنى؛ وهي حكمة تحمل معاني جليلة؛ ولكننا نعجب عندما نرى كثيرا من الناس يوظفها بخلاف مقصودها؛ فيَزهد فيما لا يُزهدُ فيه،

Comments


bottom of page