الحمد لله الواحد الأحد، بَرئَ الخلقَ فتفرد، وخضعتْ له الكائنات دون تمرُد، دلَّ الخلقَ عليه فمنهم مُدْبِرٌ جاحد، ومنهم مقبلٌ مُقتصد، وفي كل شيء له آية تدل أنه أحد. بعث الرسلَ بالبينات إلى أولي الحِجا، فأناروا السبيل وبددوا الدجى. فمن قفَّى آثارهم تقلب في الهدى، ومآله إلى خير وكان فيمن نجى، وأما من أبى واستكبر فقد ضل واعتدى، ومآله إلى شر وكان فيمن تردى.
ثم الصلاة والسلام على خير الورى سيد ولد عدنان الداعي إلى الهدى، وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان ما أعقب النهار الليل، وبزغت شمس الدجى.
وبعد، فإن من عجائب الدهر، زيغُ الكيِّس وقد أبصر النور، وتعامي المبصر عن براهين الله تعالى الساطعة وقد سدت الأفق. فالله عز وجل قادر أن يجعل مخلوقاته بسيطة التركيب والخِلقة، بعيدة عن التعقيد خالية من الدِقة، إلا أنه سبحانه أرادها غاية في التعقيد، وغاية في الإتقان والدقة، وغاية في الإبهار والدهشة، حتى لا يترك سبحانه وتعالى لملحد أو شاك عذرا حين يلقاه يوم القيامة، قال تعالى: (رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)([1]).
ومن المحزن والمؤسف أن يُدفَع عاقلٌ للبرهنة على مسألة عظيمة كهذه، فوجود الخالق مسألة أُشْربِتْها الفِطَر، وخَضعت لها العقول، وقفَّ لها الحس والوجدان، وإنْ تجاحد الجاحدون. قال تعالى (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا)([2])
وقال تعالى (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)([3]).
أما وأنه قد وُجد من يُسَفْسِط فيما برهن عليه العقل، وأدركه الحس، وأيقنته الفطرة، ونطق به الشرع، فوجب على أهل العلم والإيمان أن يأخذوا بأيدي السفهاء، بحلم وعلم، ويذبوا عن حياض هذا الأصل العظيم -الذي هو مدار الحياة والكون- بحجة وبرهان.
ففي هذا المقال سيتم التعرض بالتفنيد لحجة يتكئ عليها الملاحدة كثيرا في تقرير كيف بدأ الكون؛ ألا وهي ادعاء أن الصدفة هي سبب بدء هذا الكون، وبيان أن الإتقان الذي نراه ونتمتع به، برهان ساطع على وجود من أتقن هذا الكون.
فأقول: عندما يدعي الملحد أن للصدفة نصيب في قيام هذا الكون المبهر في دقته، العجيب في تعقيده، فإننا نقول له هل تعي ما تقول؟!
يقول عالم فلسفة العلوم ستيفن سي ماير مدير مركز العلوم والثقافة لمعهد ديسكفري([4]): حتى يتكون بروتين فعال من الدي أن أي (DNA) داخل نواة الخلية الواحدة، فإن احتمال وقوع ذلك صدفة هو 1 على 10 أس 164. (يعني فاصلة بعدها 164 صفرا ثم واحدا).
حتى نتصور حجم هذا الرقم، وما مدى تحقق هذا الاحتمال، يقول عالم الفلك هف روس لو أننا وضعنا دراهم معدنية وصففناها فوق بعض على جميع قارة أمريكا إلى أن تصل إلى القمر، الذي يبعد عن الأرض قرابة 380 ألف كيلومتر...
بل وصنعنا الشيء نفسه مع بليون قارة مثل أمريكا، ثم وضعنا عملة معدنية واحدة حمراء في وسط هذه الأكوام العظيمة، وقلنا لأحدهم عليك أن تختار الدرهم المعدني الأحمر من أول محاولة وهو مغمض العينين.
أتدرون ما هو احتمال أن يلتقط الدرهم الأحمر من أول محاولة؟
الاحتمال هو 1 على 10 أس 40!! (أي فاصلة بعدها 40 صفرا ثم واحدا)([5])
وهو احتمال يعد أفضل بأربع مرات من تكوين بروتين واحد صدفةً!!
بل يقول علماء الفلك إن عدد جزيئات الذرة في الكون كله، واحد وأمامه 80 صفرا (10 أس 80)، والكون يمتد أكثر من 90 بليون سنة ضؤئية. فهل أدركنا حقيقة فرصة أن يتكون بروتين بسيط في الخلية، وأنه ليس أمرا غير محتمل وحسب، بل إنه مستحيل، ولا يمكن أن يكون.
فحتى نستطيع أن نقول أن هناك احتمالا لأن يتكون بروتين بالصدفة -وليس حتمية تحقق حدوث بروتين- فإننا نحتاج كونا أعظم من كوننا ببلايين المرات، ونحتاج زمانا أطول من زماننا ببلايين المرات؛ علما أن كوننا نشأ قبل قرابة 13.7 بليون سنة كما ذكر ذلك علماء الفلك.
وهذا مثال لكائن واحد في نواة خلية؛ دع عنك الكائنات الأخرى التي معه في نواة الخلية وخارج النواة، بل وخارج الخلية؛ وكلها مرتبطة بعضها ببعض بشكل تكاملي معقد، وهذا بحد ذاته برهان آخر لإبطال الصدفة. فلن تقوم لهذا البروتين قائمة إلا بوجود غيره من المكونات؛ بل يحتاج إلى بيئة داخلية وخارجية ملائمة؛ من طقس وتراكيب كيميائية ومواد مغذية وغيرها.
فبالله عليكم هل لعاقل بعد هذا كله أن يسفسط ويقول إنها الصدفة؟!
فادعاء ذلك يُعد مغالطة مفضوحة ممجوجة.
فلابد أن نحترم عقول من نحدث؛ ونعرف للعلم قدره وحدوده.
وإليك أيها القارئ اللبيب طريقة أخرى لتفنيد دعوى الصدفة.
عندما يتكلم أحد الملاحدة عن بداية الكون ويقول بملء فيه إن ذلك حدث صدفة!
فإننا نقول له: نوافقك أن للكون بداية؛ فحتى العلماء الملاحدة اتفقوا أن للكون بداية، إلا أنهم يصرون أنه بدأ من عدم؛ ويقصدون بذلك إنكار وجود الخالق قبل ذلك. ويقولون إنه لم يكن ثَمّ زمان ولا مكان ولا طاقة ولا حتى فضاء، إنما هو عدم محض؛ ثم فجأة حدث الكون، ووجد صدفة من خلال الانفجار العظيم!!
ولا يخفى على كل عاقل أن الصدفة تحتاج لزمان ومكان ومادة حتى تعمل. وتحتاج إلى بلايين بلايين المحاولات لتصل إلى احتمال إحداث الكون.
حتى نقرب الصورة أكثر؛ لنفترض أنك تريد أن تحصل على الرقم ستة عند رميك زهر النرد، فإنك ستحتاج إلى الزهر، وتحتاج وقتا لتحاول، وتحتاج مكانا كذلك. فبدون هذه المكونات الثلاثة، لن تستطيع أن تجري هذه المحاولة؛ فضلا عن أن تقول حصلتُ على الرقم ستة صدفةً!
فما بالك لو كان معك بلايين زهور النرد وتريد أن تصيب الرقم ستة في جميعها، سواء ألقيتها واحدة تلو الأخرى أو ألقيتها جميعا، فإنك ستحتاج لزمن طويل جدا، ومكان عظيم جدا، حتى تجري فيه هذه المحاولات.
لذلك، حتى نجزم أن الصدفة هي التي أوجدت الكون من عدم، فإن الصدفة تحتاج إلى زمن غاية في الطول ومكان عظيم الأبعاد! ومع عدم وجود الزمان والمكان والمادة لن تكون هناك صدفة.
فكيف لعاقل أن يتجرأ وينسب الفعل إلى الصدفة وليس ثَمّ زمان ولا مكان ولا مادة ولا فضاء؟!
(مَا لَكُمۡ كَيۡفَ تَحۡكُمُونَ)(القلم:36)
فلهذا كان برهان الإحكام والإتقان أحد البراهين التي أذهلت لب كل عاقل، وجعلت القول بالصدفة -المصادم للعقل- يبدوا سخيفا يمجه من كان عنده مسحة من عقل.
لذلك، عندما اكتشف العالمان فرانسيس كريك وجيمس واتسون تركيب الشفرة الوراثية (DNA) في نواة الخلية عام ١٩٥٣، أظهرا تعجبهما وانبهارهما من الدقة العظيمة في بنيتها وتركيبها.
ففي نواة الخلية الواحدة، معلومات مشفرة من أربعة أحرف كيميائية، يتم ترتيبها بشكل معين، لتخرج لنا معلومات مركبة من ٣ بليون حرف، لو طبعت في كتاب لكانت في ١٠٠٠ مجلد وفي كل مجلد ٥٠٠ صفحة.
والشريط الوراثي ملفوف على نفسه ١٠٠ ألف لفة داخل نواة الخلية في مساحة ١ على ١٠٠٠ من الملليمتر. وهذا الشريط الوراثي المشفر في الخلية الواحدة يحمل في طياته معلومات بناء إنسان متكامل.([6])
علق بيل جيتس مالك مايكروسوفت بقوله([7]):
الدي إن أي مثل برنامج كمبيوتر لكنه أكثر تعقيدا بمراحل من أعقد برمجة إلكترونية صنعها الإنسان.
فمن شفّر هذه المعلومات في هذه المساحة المتناهية في الصغر، وبهذه الطريقة العجيبة المعقدة، التي حار أمامها المتخصصون؟
(مَّا لَكُمۡ لَا تَرۡجُونَ لِلَّهِ وَقَارٗا )
وما يزيد الأمر تعقيدا أن هذا الجسيمات الدقيقة والأجرام العظيمة والكائنات الحية العاقلة منها وغير العاقلة، وجودها تكاملي. كل كائن منها هو بذاته منظومة فريدة، غاية في التعقيد والإتقان؛ فادعاء أن كل واحدة منها قامت صدفة، هو ضربٌ لا أقول يفوق الخيال، بل لا مجال حتى للخيال تصوره.
وحتى أزيد الأمر وضوحا، فعلى سبيل المثال، كل كأئن حي -حتى يحفظ وجوده- يحتاج إلى أوكسجين، ولابد أن يكون بنسبة دقيقة جدا، والنبات مصدر للأكسجين؛ والنبات يحتاج إلى شمس بحرارة موزونة ومسافة مقدرة، وإلى ماء؛ والماء مركب تركيب خاص؛ وتعاقب الليل والنهار؛ والسلسلة تكاد لا تنتهي. بل هذا الكائن الحي يحتاج إلى زوج من جنسه مخالفا له في الخلقه، ليضمن بقاء النسل، (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فتدبروا يا رعاكم الله يا لهذا الصانع الذي أوجد فأظهر، وأتقن فأبهر، وأحكم وقدر. فويل لك ثم ويل لك أيها الجاحد الغِر من قوله تعالى (بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوۡعِدُهُمۡ وَٱلسَّاعَةُ أَدۡهَىٰ وَأَمَرُّ) .
هذا والحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
([1]) سورة النساء: آية 165
([2]) سورة النمل: آية 14
([3]) سورة إبراهيم: آية 10
([5]) انظر: عبدالله العجيري، شموع النهار ص 192
([6]) انظر: د. هيثم طلعت، عيادة الملحدين ص 11
([7]) عبد الله العجيري، شموع النهار ص 202
Comments