بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد.
علا الجدال في الإعلام ووسائل التواصل حول مسألة فصل الدين عن الدولة، وارتفع ضجيجه، وسعى دعاته بكل ما أُتوا من قوة في بث مذهبهم، وإخراجه للناس بثوب قشيب، ليوهموا العامة حسنه وبهائه. والعجيب، أنهم حاولوا أن يُلبسوه لباس الشرع، فأتوا بأدلة من الكتاب والسنة، ولووا أعناقها، ليعززوا مذهبهم، ويجعلوه مستساغا. والأدهى والأمر حين ترى من تلبس بلبوس العلم وأهله، قد صار بوقًا لهذا المذهب، ينافح عنه، ويستدل له، ويبطل ويسفه قول كل من يخالفه.
والمسلم العامي، المغلوب على أمره، قليل البضاعة، في التميز بين الغث والسمين؛ قد عُزل عن علماءه؛ ووقف تائهًا حائرًا بين حجج الطرفين، لا سيما إذا كان الطرفان ممن يرفعان شعار قال الله تعالى وقال رسوله صلى الله عليه وسلم لإقامة حجته.
ودائما ما نجد الإعلام يتحرى بعناية فائقة اختيار الطرف الذي يمثل فصل الدين عن الدولة؛ فيكون صاحب دُربَة في الظهور إعلاميا، صليت اللسان، يحسن تشتيت المخالف، والتشويش عليه إذا ما غُلب بالحجة.
بينما الطرف الآخر الذي يمثل الدين، دائما ما يكون شخصًا مغمورا، لا يُعرف وزنُه في العلم، هزيل الحجة، يقاد من قبل المخالف بسهولة، فيُصرف بمكر ودهاء عن المواضيع التي تحشر المخالف في زاوية.
لكن -ولله الحمد والمنة- قد سخر الله للدفاع عن هذا الدين العظيم، علماء وطلبة علم أكفاء ونبهاء، تصدوا لتشويش هؤلاء المشغِّبين، من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والقنوات المحايدة، أو المناصرة لدين الله تعالى، فأبانوا بالحجة والبيان، تهافت حجج دعاة العلمانية، وأتوا بالبراهين الواقعية، والإحصاءات الرسمية التي توضح ما قادت إليه العلمانية عند أربابها في الغرب من انحطاط أخلاقي، وانهيار قيَمي، وتهافت اجتماعي، وتمزق أسري، التي سعى دعاة العلمانية بكل ما أتوا من قوة لمحاكاتها.
وأنا أريد هنا أن أخاطب أخي المسلم غير المتبحر في العلم، الذي وقع في حيرة بين الطرفين، وتشتت عليه الحجج، وتلاطمت به أمواجها.
فأقول ياأيها الأخ المسلم المبارك، الخاضع لربه، الحريص على مرضاته، سددك المولى ووفقك لكل خير:
وضع الله تعالى القوانين الكونية التي بها تسير الأفلاك من أرض، ونجوم، وكواكب، وأقمار، بل وذراة وما دون الذراة؛ ووضع القوانين التي بها تستقيم حياة المخلوقات –دقيقها وجليلها-، من قبل أن تكون خلية ترى بالمجهر، إلى أن صارت كائنًا مكتملًا؛ فأمدها بما أصلح بقاءها، من هواء، وماء، ونبات، وبحار، وظلام وضياء؛ وأمدها بما أصلح استمرارها، فخلق لها من نفسها زوجها، قال تعالى:(وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). ولنا أن نتأمل في عجيب أمر الزوجية في الكائنات، فهو أحد البراهين والآيات العديدة الذي أذهل العقلاء، ودل أنه سبحانه وتعالى المتفرد في خلق هذا الكون بجلاء.
ولذك نجدنا جميعا، نُظهر خضوعا مطلقًا، وانبهارا تامًا، له سبحانه وتعالى في خلقه وإدارته عز وجل لهذا الكون الفسيح، بما فيه من بديع مخلوقاته، التي زادت العباد فوق انبهارهم ذهولا، وأورثت إعجابهم خضوعا؛ كل ذلك من خلال قوانين كونية وضعها سبحانه وتعالى، شديدة التعقيد في البنيان إلا أنها بلغت الغاية في الدقة والإتقان، والمنتهى في العناية بكل مخلوق عبر الزمان.
لأجل ذلك، لم نسمع يوما من الدهر من اعترض على وجود الشمس أو انتقد القانون الذي تسير عليه.
ولم نسمع من استنكر خلق الليل والنهار وانتقد قانون سيرهما.
ولم نسمع من اعترض فقال: لماذا تحمل المرأة ولا يحمل الرجل؟
أو لماذا ترضع المرأة ولا يرضع الرجل؟
أو لماذا تحيض المرأة ولا يحيض الرجل؟
وقس على ذلك جميع المخلوقات والكائنات، لا نجد اعتراضا عليها ولا على القوانين الكونية التي تُسيِّرُها.
فيا من سلَّمتَ له سبحانه بأنه الخالق البارئ المدبر لهذا الكون، فخضعت له جوارحك، وأخبتَ له وجدانك، إقرارا بفضله، وتسليما لإتقانه، وامتنانا لإحسانه، أيستقيم ويعقل بعد كل ذلك أن تعترض على شرعية قوانينه؟!
فكيف تسلم له في موطن وتتمرد في مواطن ؟!
فحين يقضي الله عز وجل أن لا نأكل ولا نشرب أصنافا معينة من الطعام، ذلك لأنه الأعلم بما ينفعنا وما يضرنا.
وحين يقضي سبحانه أن تكون التعاملات المالية بضوابط معينة، خالية من الربا والغش والغرر، فلأنه الأعلم بما يحفظ للناس حقوقهم وويدفع عنهم الخصومة والضرر.
وحين يقضي عز وجل أن تكون أحكام الأسرة من نكاح وطلاق وحضانة وإرث بضوابط معينة، فلأنه أعلم بما يصلح للناس حياتهم ومعاشهم ويذهب البغضاء والضغينة من قلوبهم.
وحين يقضي أحكام العقوبات على من يعتدي وينص عليها، ويضع نظامًا قضائيًا دقيقا عادلًا، فلأنه الأعلم بما يزجر المعتدي، ويردع الصائل، ويحفظ للمجتمع أمنه واستقراره.
وحين يقضي بأن يسوس ولاة الأمور حياة الناس بموازين معينة، ويضع ضوابط للحرب والسلم، ذلك لأنه أعلم بما يحفظ للأمة لحمتها، ويردع كيد الإعداء عنها، ويوطد أمنها واستقرارها، ويصلح للأمة شؤون دينها ودنياها.
فعجبا لمن يجادل ويسفسط في الصحف والقنوات معترضا على شرع الله -قوانينه الشرعية- وهو نفسه يقف خضعانا له سبحانه وتعالى عند قوانينه الكونية!
(فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (يونس: 35).
بل عجبا لمن يضع لنفسه لقب "مسلم علماني" ويريد أن يوفق بين نقيضين؛ فالمسلمُ مستسلمٌ كليًا لربه وخالقه؛ والعلماني متمرد، وصاد عن أحكام ربه، رافضًا شرعيتها.
وكأنّ لسان حال من عطل الأحكام الشرعية يقول-عياذا بالله- لقد أتقنت يارب خلق الكون وتدبيره، وسلمنا لك بأنك أعلم وأحكم في خلقه؛ ولقد قرأنا القرآن ورأينا فيه الأحكام الشرعية التي ذكرتها ؛ لكننا لا نحتاجها، لأنها لا تصلح لنا، ونرى أنها ستضرنا ولن تنفعنا؛ فنحن أعلم وأحكم منك بوضع شرع يناسبنا.
لذلك رأينا أن نستبدلها بأحكام لنا نقررها نحن؛
فلنا أن نسنَّ القوانين التي نرى!
ونحلَّ ما نرى!
ونحرِّمَ ما نرى!
فيا عبد الله يا مسلم، ألا تتسائل عن حال هؤلاء، كيف يُقرون بأن الله تعالى سبحانه الآله المعبود المطاع، وهو يأمرهم بأن يقيموا هذه الأحكام التي أمتلأ بها كتابه العظيم ودعى إليها رسوله الكريم، ثم يصرون ويجادلون على عدم الإمتثال لها، ولا يلتفتون لجميعها، ويدعون إلى استبدالها بقوانين وضعها مخلقٌ ضعيفٌ فقيرٌ إلى الله.
فما معنى وجود كل هذه الآيات في كتاب الله عز وجل التي تنص على الإحتكام لكتاب الله تعالى، والآيات البيانات التي تنص على أحكام بعينها في أبواب شتى، كالبيوع والمعاملات والأقتصاد؛ والنكاح والطلاق وأحكام الأسرة؛ والجنايات والعقوبات والقضاء؛ وسياسة شؤون الدولة والأفراد والحرب والسلم؛ فهل وضعت فقط للتعبد بتلاوتها ونيل بركة النظر إليها وحسب؟ أم أننا ملزمون ومطالبون بإقامة حدودها كما نقيم حروفها؟!
لأجل هذا ذم المولى سبحانه وتعالى اليهود حين فعلوا ما فعل هؤلاء المعطلين لشرع الله تعالى، المبدلين لأحكام الله عز وجل، وبيّن عظيم عقوبتهم، فقال عز وجل عنهم: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ۚ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِل عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة:85)
والآيات والأحاديث التي تأمرنا بالإحتكام لكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرة.
عندما يقول ربنا عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ) (محمد:33)
فهل هذا الذي رد كثيرا من أحكام الشرع، يُعد مطيعا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم أم مخالفًا عاصيًا متمردًا مبطلًا لعمله؟
فكيف يعقل أن نعطل العمل بمثل هذه الآيات:
قال تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (النساء: 65)،
قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا)(الأحزاب: 36)
فالأحكام الشرعية عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم جملةً وتفصيلًا، وأقامها وشدد على إقامتها؛ وعمل بها الخلفاء الراشدون من بعده، وقاتلوا على إقامتها؛ كما تتالى حكام المسلمين على تطبيقها لقرون طويلة. ثم نرى بعد كل ذلك من يأتي بزعم مشبوه، ودعوى مفتراة، ويجادل ويقول إن النبي صلى الله عليه وسلم دعى إلى فصل الدين عن الدولة!!
لأجل ذلك- في زمن كثُر فيه العابثون المتطاولون- ينبغي علينا أن نعلم أن ديننا هو أنفس وأغلى ما عندنا؛ وأن علينا حفظه بكل ما أوتينا من قوة، وأن نقارع بالحجة والبيان كل من تسول له نفسه المساس بجنابه، وأن ننصر عباده الذين تصدوا بالحجة والبيان لمقارعة من يقدح في هذا الدين العظيم ويسعى ليقلل من شأنه. ولا نقف موقف المتفرج النائي بنفسه عن هذا المعترك، فلا للإسلام نصر ولا للشانئين للدين كسر.
فلو كان للواحد منا صندوق من المجوهرات النفيسة؛ فهل سيسمح لكل أحد بالاطلاع على مافيه؟ لا ريب أنه سيحفظه في مكان بعيد وآمن؛ وسيمنع كل من تسول له نفسه العبث به، أو الاقتراب منه أو من محيطه.
فديننا يا أحبة، أعز وأغلى ما نملك، وعلينا أن نحوطه بالرعاية والحفظ أعظم من حرصنا على سلامة هذا الصندوق المليء بالكنوز، فحفظ الدين ورعايته وتعهده بالعناية هو أوجب الواجبات، وأسمى الغايات.
وحفظه يكون:
1. بأن نتحرى بشدة لمن نفتح آذاننا، وممن نأخذ ديننا.
2. وأن نحذر ونبتعد عمن عُرف واشتهر بالطعن في الدين وفي أهل العلم، وسعى لتغيير أحكام الله عز وجل وإبطالها.
3. وأن نلزم غرز العلماء الربانيين ليكونوا لنا عونا في حفظه. فقد زكاهم الله عز وجل وأمرنا بالرجوع إليهم عند أي نازلة، فقال: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83)؛ وأثنى عليهم نبينا صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن العلماء ورثة الأنبياء)[1] .
فإن قلت: كيف نعرف هؤلاء العلماء الربانيين، اللذين نرجع إليهم في الملمات؟
فأقول: نعرفهم بسلامة معتقدهم، وكمال إقبالهم على الله، وصلاح أعمالهم، وحسن سمتهم، ونفعهم لغيرهم؛ فهم معظمون لكلام الله عز وجل، ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، عالمون بهما، عاملون بما فيهما، غير مبدلين لإحكامهما، داعون إليهما. فهم لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم مقتفون، وعلى درب الصحابة رضوان الله عليهم سائرون، وما بدلوا تبديلا.
وقد بيَّن كثيرا عليه الصلاة والسلام مكانة العلماء، وأن الضلال إنما يقع في الأمة إذا ما تركت الأمةُ العلماءَ، وأخذت العلمَ عن غيرهم، ممن لم يُعرف بالعلم، ولم يسلك سبيله.
فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخذ الناس رؤوسًا جهالاً، فسُئِلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا))؛ متفق عليه.
وأما من أكثر الاستماع لأهل الجدل والقول على الله تعالى بغير علم، فإنه يُعرِّض دينه للتنقل والفساد، كلما أتاه رجل أوتي جدلا انجر وراءه، وترك ما يعلم من دينه لقول هذا المجادل. فمن كان هذا شأنه ودأبه، أكثر التنقل بين أقوال الرجال، فتجده يستمع لكل شيء، وينظر في كل شيء، ويظن أنه يستطيع أن يميز بين الغث والسمين، والمسكين ليس عنده علم، ولا وقت ليبحث، ويقرأ ردود أهل العلم على ما يثيره هؤلاء المشككون في دين الله عز وجل، فتلتف هذه الشبه حول عنقه، فتكبله، وترديه صريعًا.
وقد حذر السلف كثيرا من مجالسة أهل البدع والضلال والاستماع لهم، بل كان يحي بن أبي كثير (ت 129ه) رحمه الله تعالى يقول: (إذا لقيت صاحب بدعة في طريق فخذ في غيره)[2].
ولقد رأينا كيف أن السير في هذا الطريق –أي مجالسة أهل الأهواء والضلال والاستماع إليهم- والإعراض عن العلماء الربانيين، قاد بعض الشباب في جزيرة العرب وغيرها من بلاد الإسلام إلى الإلحاد، بل إلى عبادة الشيطان، كما رأينا ذلك عيانًا في بعض القنوات الفضائية وعلى الإنترنت.
فنسأل الله تعالى أن يحفظ لنا ديننا، وينصر عباده الموحدين، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
[1] رواه أبو داود (3643)، والترمذي (2682)، وصححه الألباني
[2] الإبانة (2/475) لابن بطة العكبري، شرح أصول أعتقاد أهل السنة (1/252) للالكائي.
Comments