بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وبعد.
رأينا مؤخرا كيف أن بعض من لم يُعرف بالعلم وطلبه، هيأ لهم الإعلام منابرا للظهور، وبالغوا في إبرازهم. فاليوم هو في هذه القناة الفضائية، وغدًا في أخرى. تسلط عليهم الأضواء من كل مكان، ليوهموا الناس أنهم مجددون، وأصحاب اطلاع، وفكر شمولي، ورؤية مقاصدية، ينبغي أن يُسمع لهم، ويُهمل قول غيرهم ممن خالفهم. بل إن أحدهم[1] خُصصت له حلقات يومية في شهر رمضان المبارك –شهر القرآن- ليفسر كلام الله عز وجل بمحض هواه، ومنأى عن التفسير العلمي الرصين.
ولسان حاله يقول:
وإنِّي وإنْ كنتُ الأخيرَ زمانُهُ ... لآتٍ بما لمْ تسْتطِعْهُ الأوائلُ
فانطلق هؤلاء يخوضون في كتاب الله، ويتكلمون في آيات الأحكام والاعتقاد، وأتوا بتفاسير جديدة لكتاب الله عز وجل، لم يقل بها أحد من قبل، رامين وراء ظهورهم كُتبَ من سبقهم من علماء الأمة، غير آبهين بإجماعات العلماء، ولا مرجحين لخلاف وقع بينهم. وإنما أحدثوا أقوالا جديدة لم يسبقهم إليها أحد.
وللأسف وُجِد من عامة المسلمين من فتح لهؤلاء العابثين أبواب عقله، وسلم لهم مفاتيحها.
فهل يعقل أن يغير عاقل دينه في لحظة، ويتنازل عن ثوابت رسخت في قلبه عرفها المسلمون منذ 1400 سنة، دون تثبت من صحة ما يُنقل، ولا معرفة بهذا المتحدث -المبدل لأحكام الدين-، ولا معرفة لخلفيته العلمية؟!
بهذه السهولة تتبدل المعتقدات وتنهار الثوابت!!
فهذه الثوابت إنما رسخت عندنا بيقين متين، فكيف تزول لمجرد شبهة هشة يلقيها مجهول لا يُعرف قدره في العلم، ولا تثبُّت من صحة ما يقول، بل ولا يعرف من هو؟!
قارن ذلك مع موقف الراسخين في العلم، وكيف يثبتون أمام أهل الأهواء.
جاء رجل من أهل الأهواء إلى الإمام مالك رحمه الله ليجادله، فقال له: أما إني على بينة من ديني، وأما أنت، فشاك، اذهب إلى شاك مثلك فخاصمه[2].
فلا بد لكل عاقل أن يعي أن من أدعى أنه يفسر القرآن الكريم، وأتى بأحكام لم يقل بها أحد من قبل، وظاهرٌ أنها أحكام تَنقُضُ وتخالف أحكامًا عملت بها الأمة على مدى 1400 سنة، فإن فعله هذا يُعدُ:
1. طعنًا... في الله عز وجل!
2. وطعنًا... في رسول الله صلى الله عليه وسلم!
3. وطعنًا... في القرآن الكريم!
4. وطعنًا... في الصحابة رضي الله عنهم!
5. وطعنًا... في علماء الأمة من زمن التابعين إلى يومنا هذا!
كيف يكون ذلك طعن؟
1. طعن... في الله عز وجل
لأن ظاهر كلامه أن الله تعالى ترك الأمة طوال هذه المدة على ضلالة، ولم يبين لهم البتة المعنى الصحيح لكلامه ومراده عز وجل، حتى أتى هذا الدعي بعد 1400 سنة ليصحح للأمة طريقها وينقذها من ضلالها.
2. وطعن... في رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأن ظاهر كلامه أن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الصحابة يفهمون القرآن فهما خاطئًا دون أن يبين لهم المعنى الصحيح لكلام الله عز وجل. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليؤخر البيان عن وقت الحاجة، وأنه قد بلَّغ دين الله على أتم وجه وأكمله، والآيات في ذلك كثيرة، (اليوم أكملت لكم دينكم)، (يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته).
فهذا الذي يفسر القرآن بتفسير لم يقل به النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم، ولا من جاء بعدهم، لسان مقاله يصرخ قائلًا: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما بلغ رسالة ربه، ولم يُكمل الدين. لأن الدين لو كان كاملًا، لما أحتاج لمن يأتي ويغير أحكامًا شرعية ثابتة عملت بها الأمة منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا.
3. وطعن... في القرآن الكريم
لأن ظاهر كلامه أن القرآن لم يكن واضحا بينًا في إيصال المعنى الصحيح لكلام الله عز وجل إلى المسلمين، حتى أتى هذا الغِمر ليقف أمام الملأ، ويقول للناس: يا قوم لقد فهمتم على مدى 1400 سنة القرآن فهما خاطئا، وها أنا ذا أبين لكم الفهم الصحيح!
وربنا عز وجل قال في كتابه الكريم: (قرآنا عربيا غير ذي عوج). أي غير ذي لبس، بيينٌ واضح.
وقال سبحانه: (نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين).
فمن ستصدق أيها العاقل؟
آلله عز وجل؟
أم هذا الدعي الذي يفسر القرآن، ويدعي أن القرآن على مدى 1400 سنة لم يكن مُبِينًا حتى أتى هو وجعله بينًا، وكشف للناس ما كان منهم من فهم خاطئ؟!
4. وطعن... في الصحابة رضي الله عنهم
لأن الصحابة هم من نقل الدين لمن بعدهم، فظاهر كلامه أن الصحابة نقلوا لمن بعدهم فهما خطأ لأحكام الدين، ولم يبينوا المعنى الصحيح للقرآن، فتناقلت الأمة هذه الأحكام الخطأ جيلا بعد جيل حتى أتى هذا الدعي -مفسر آخر زمانه- ليصحح للأمة هذه الأحكام الخاطئة.
5. وطعن... في علماء الأمة من زمن التابعين إلى يومنا هذا
لأن ظاهر كلامه أن التابعين عندما أخذوا القرآن وتفسيره من الصحابة، لم يتمعنوا فيه ولم يُعمِلوا عقولهم فيه، ولم يتثبتوا من صحة تفسير الصحابة. ثم نقلوه إلى من بعدهم من أجيال، وكل جيل من أمة الإسلام يرث هذا التفسير الخطأ، ولا يصححه، ولا يراجعه، ولا يعرضه على اللغة العربية ليرى هل هي توافقه أم تعارضه، إلى أن أتى هذا الدعي مفسر الأنام ليقول للأمة وعلمائها: كنتم على خطأ على مدى 1400 سنة وها أنا ذا أبين لكم التفسير الصحيح، والأحكام الصحيحة التي لم تُوفَّقوا إليها على مدى 1400 سنة.
فهل أدركنا جرم هذا الذي فسر كتاب الله، وغير أحكام الدين الثابتة على مدى 1400سنة، دون ضوابط لغوية، ولا قواعد علمية، ولا سنة متبعة، ولا أثرا مقتفى؟
[1] وهو المهندس محمد شحرور، ولقد كثر من هم على شاكلته في عصرنا هذا.
[2] الإمام الذهبي، سير أعلام النبلاء (99/8)
Comments